إسلام حمزة وعمر وأسباب الهجرة الثانية
إسلام حمزة وعمر وأسباب الهجرة الثانية |
بإسلام حمزة وعمر رضي الله عنهما دخلت الدعوة في مرحلة جديدة، وكان من أهم نتائجها تغيُّر استراتيجية الرسول وتحوُّل الدعوة من الخفاء إلى العلن، وعلى الرغم من هذا التحول النسبي نجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم اتخذ قرارًا بالهجرة الثانية إلى الحبشة، فما أسبابه؟ وماذا عن خطورته؟ وكيف تعاملت قريش مع تلك الأزمة الجديدة؟
بعد إسلام العظيمين حمزة وعمر رضي الله عنهما تغيَّرت استراتيجية الرسول في الدعوة، وكذلك سياسة الكفار في التعامل مع المسلمين؛ فقد كان المشركون -كما ذكرنا- قد رفعوا أيديهم نسبيًّا عن المسلمين بعد إسلام حمزة وإسلام عمر رضي الله عنهما، وكذلك وجد الرسول أنَّ المرحلة تستوجب الظهور والعلن، وهذا بالفعل ما حدث عند خروج المسلمين صفين يتقدم أحدهما حمزة والآخر عمر رضي الله عنهما، وبهذا تغيرت المرحلة نسبيًّا وبدأت تظهر بعض المكاسب الكبيرة من وراء ذلك.
ومع ذلك على الرغم من إسلام حمزة وعمر فإنَّ الصدام مع المشركين في هذه المرحلة غير وارد؛ لأسبابٍ كثيرة فصَّلناها عند حديثنا عن الأمر الرباني للمسلمين بالكفِّ عن القتال، والبقاء في مكَّة لتلقِّي الأذى والتعذيب لم يَعُدْ ممكنًا أيضًا؛ لكثرة المسلمين، وعدم القدرة على حمايتهم؛ ولأنَّ المرحلة تتطلَّب الإعلان، فلم يَعُدْ هناك مَنْ يُخفي إسلامه إلَّا القليل، فإذا كان الأمر كذلك، فالخروج من مكة إلى الحبشة هو أكثر الاختيارات أمانًا، على الأقل في هذه المرحلة التي لم يُسمح فيها بالقتال.
ولن يتمَّ الأمر بالهجرة لجميع المسلمين..
فبعض المسلمين سيُهاجر ليُحافظ على بؤرة جديدة للدعوة في الحبشة، ويحفظ الدعاة من الإبادة التي يمكن أن تُوقف مسيرة الدعوة تمامًا، وبعض المسلمين سيبقى في مكة للحفاظ على مكاسب الدعوة المتحقِّقة في الفترة الأخيرة، ولاستمرار العمل في دعوة أهل مكة وشبابها، وسيبقى في مكة عمر وحمزة رضي الله عنهما، بالإضافة -بالطبع- إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حتى يُوَفِّروا بيئة مناسبة تسمح لمن أراد أن يلتحق بركب الدعوة ألا يتردَّد، ولا شكَّ أن الرسول صلى الله عليه وسلم خشي أن ترجع المرحلة القديمة مرحلة البطش والتعذيب، إذا ترك حمزة وعمر رضي الله عنهما مكة، وهو يُدرك تمامًا أنَّهما كانا السبب في تغيير المرحلة، وهو لا يُريد للعجلة أن تعود إلى الوراء؛ ومن ثَمَّ أبقاهما، مع أنَّه سيسمح -كما سنرى- لأبي بكر أن يُهاجر، وهو موقفٌ يحتاج إلى تدقيقٍ وتحليل؛ لأنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم كان يبحث عن الأصلح للدعوة، ومن هنا فكان يأمر البعض بالهجرة إلى الحبشة، والبعض يأمرهم بالبقاء، وهناك آخرون كان يترك لهم حريَّة الاختيار، وهكذا القائد الناجح يعرف إمكانات كلِّ جنديٍّ من جنوده، وعلى هذا الأساس يُوَزِّع الأدوار.
وهل كان زعماء الكفر بمنأى عن هذه الاحتمالات؟!
لا شكَّ أنَّ الزعماء المشركين كانوا يتوقَّعُون مثل هذه الخطوة؛ فهي ليست جديدة الآن، وقد عرف المسلمون الطريق، وصارت لهم خبرة بالهجرة، ودراية بأرض الحبشة، والزعماء يُدركون أنه مع تشديد الضغط على المسلمين سيُصبح قرار الهجرة قريبًا جدًّا، فماذا هم فاعلون؟!
الواقع أن هذه الهجرة لم يكن مرغوب فيها عندهم بالمرَّة؛ لذلك فسيجتهد قادة مكة في منعها بكل طاقاتهم.
وقد يسأل سائل: أليس مَنْع المسلمين من الهجرة أمرًا غريبًا؟! أليس من المفترض أن المشركين سيسعدون إذا ترك المسلمون لهم البلد بما فيها؟ ألن يَتَخَلَّصوا بذلك من القلق الذي يُسَبِّبونه؟ ألن تتوقَّف الدعوة عندما يُغادر أهلها البلاد؟
كل هذه أسئلة تبدو منطقيَّة.. لكنَّ الواقع أنَّ زعماء مكة -وكذلك أعداء الدعوات في كلِّ البلاد وفي كلِّ الأزمان- لا يُحِبُّون لأصحاب الدعوات أن يُغادروا بلادهم إلى غيرها! وهم يقبلون بالمشاكل التي تحدث في وجودهم دفعًا للمشكلات الأكبر التي يُمكن أن تحدث بهجرتهم وخروجهم؛ لذلك -وحتى الآن- تجد أنَّ معظم الدول التي تُحارب الدعوة تضع الدعاة في قوائم الممنوعين من السفر، وهي وإن كانت تُبقي البلاد ملتهبة؛ فإنَّها تُحاول أن تقي نفسها ما هو أكثر التهابًا!
كيف كانت تُفَكِّر قريش؟!
أولًا: يُدرك المشركون أنَّ المؤمنين ما ذهبوا إلى الحبشة إلَّا ليعودوا، وكانوا يَرَوْنَ أنَّ الحبشة ما هي إلَّا محضن يُربَّى فيه المسلمون ليعودوا أشدَّ قوَّة؛ فالمؤمنون أصحاب قضية، ولن يرضوا بالحياة المستريحة في الحبشة ويتركوا قضيتهم، وكما ذكر لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه قد بُعث لقومه خاصَّة وللناس عامَّة، ولا بُدَّ أن المؤمنين سيبذلون قصارى جهدهم ليصلوا بهذه الدعوة إلى مشارق الأرض ومغاربها، ولا شَكَّ أن مكة ستكون من أهم النقاط في محطَّة المؤمنين، فملفُّها لن يُغلق أبدًا بهجرة المسلمين.
ثانيًا: قد يُفْسِد المؤمنون علاقة الحبشة بمكة؛ لأنه لو رأى أهل الحبشة أخلاق المؤمنين ونُضجهم ونقاء ما يدعون إليه، فإنهم ما يلبثون أن يستنكروا أفعال الذين عَذَّبُوهم، وقد يقطعون علاقاتهم السياسية والاقتصادية بمكة.
ثالثًا: يخاف القرشيون من دخول أهل الحبشة في الإسلام؛ ومن ثَمَّ فقد يُقدمون على غزو مكة؛ خاصَّةً أن المشركين كانوا يَرَوْنَ التعاطف الإسلامي مع نصارى الروم، فنصارى الحبشة كذلك قريبون إليهم؛ لذا فلم يكن بعيدًا على أهل مكة تخوُّفهم من أن يُسلم أهل الحبشة، ثُمَّ يُقبلون بعد ذلك على مكة لغزوها، ونشر الإسلام فيها، وقريش تعلم أنه ليس لها طاقة بحرب دولة الحبشة، وليس ببعيد من أهل مكة ما حدث من أبرهة، وهو مجرَّد تابع لملك الحبشة على منطقة اليمن، فقد غزا مكة ولم يستطع أهلها أن يفعلوا شيئًا، لولا الطيور الأبابيل.
رابعًا: يخاف القرشيون من انتشار المدِّ الإسلامي خارج مكة بصفة عامَّة، فقريش كانت تعلم أن دعوة المسلمين مقنعة، ودينهم قيِّم، وقرآنهم معجز، ولو تُركت لهم حرية الدعوة فلا شَكَّ أن عموم الناس من أصحاب الفطر السليمة سيدخلون في هذا الدين؛ إذن فلْيُمنع المسلمون من السفر، ولْتُحَدَّد إقامتهم في أرض مكة، وإلَّا انقلبت عليهم الدنيا من حيث لا يعلمون.
خامسًا: سيفضح المسلمون بهجرتهم الكوارث الأخلاقية التي ارتكبها زعماء الكفر في حربهم للإسلام؛ فالعرب كانت تتيه على الناس بفضائل الأخلاق، ومكارم المثل والقيم؛ خاصة قريش وهي أعزُّ العرب وأشرفهم، وكانوا يُعَظِّمون الصدق والعدل والكرم والوفاء، وكانوا يحترمون البلد الحرام وقدسيته، وكانوا يُقَدِّرون القبيلة والانتماء إليها، ويحترمون النسب الأصيل ويُقَدِّمونه، ثم ها هم يفعلون ما يندى له الجبين، ويستحي منه الشرفاء والعقلاء.. ها هم يقتلون ويُعَذِّبون ويعتدون على المظلومين الذين ليست لهم جريرة إلَّا مخالفتهم في العقيدة، وها هم يَتَنَكَّرون لأشرفهم وأعزِّهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتنكَّرون كذلك لأصحابه من ذوي الشرف والهيبة والمكانة، وها هم يكذبون على محمد صلى الله عليه وسلم، ويتهمونه بما يعلمون أنه ليس فيه، وها هم يعجزون أمام تحدِّي القرآن الكريم لهم، وها هم يفعلون كل هذه الموبقات في البلد الحرام، وفي صحن الكعبة!
سيكون انتشار مثل هذه الأخبار سُبَّة في تاريخ قريش، وتمريغًا لكرامتها في الوحل؛ لذلك ستسعى بكل طاقتها أن يبقى أمر هذه الفضائح حبيسًا بين جدران مكة!
لهذه الأسباب -وقد يكون لغيرها- سيحرص زعماء الكفر على منع المسلمين من الهجرة.
ومع ذلك، وفي ظلِّ هذه الأجواء الخطرة، وتحت هذا الضغط القرشي الظالم، وخوفًا من استئصال عامَّة المسلمين في لحظات الغضب والتهوُّر غير المحسوب وغير المدروس، في هذا الموقف الصعب أصدر رسول الله صلى الله عليه وسلم قراره بالهجرة مرَّة ثانية إلى أرض الحبشة، فكان الرسول صلى الله عليه وسلم كقائد مسئول له أهداف معلومة ومحدَّدة؛ فالرؤية عنده واضحة، والأولويات عنده مُحْكَمة، وهو يتحرَّك بمرونة سياسية وفقهية عالية، فكان يعلم أن الدعوة لا بُدَّ أن تصل إلى عموم الناس، والدعوةُ لن تصل إلى الناس إلَّا عن طريق الدعاة، والدعاة قد وصلوا إلى مرحلة من الإيذاء يصعب معها استمرار الدعوة، إذن فليكن القرار الحاسم الجريء، وفي الوقت المناسب.
وإنه لقرار استراتيجي خطير، وإنها لموازنة بين الهجرة وترك الديار ونقل ميدان العمل إلى الحبشة، وبين البقاء في مكة واستمرار الدعوة مع التضييق الشديد الذي تُمارسه قريش.
قد ينفعل الشباب ويقولون: نبقى مهما كانت النتائج، ولو أدَّى ذلك إلى الموت، فهذا موت في سبيل الله؛ لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم القائد السياسي المحنَّك، والداعية الحكيم، يعلم أن الأمور لا تسير بهذه الطريقة؛ فالله عز وجل خلق النبات ضعيفًا ليِّنًا طريًّا مرنًا، فإذا جاءت ريح شديدة مال معها حتى لا ينكسر، ثُمَّ عندما يشتدُّ عوده، ويُصبح شجرة راسخة الأركان، لها جذور عميقة؛ فإنها لا تميل أمام الريح الشديدة، بل تظلُّ ثابتة، وتمرُّ الرياح مهما اشتدَّت قوتها من حولها، وهكذا حال المؤمن الفقيه؛ لهذا أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا القرار الجريء.
عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِ كَمَثَلِ الزَّرْعِ لَا تَزَالُ الرِّيحُ تُمِيلُهُ، وَلَا يَزَالُ الْمُؤْمِنُ يُصِيبُهُ الْبَلَاءُ، وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ كَمَثَلِ شَجَرَةِ الأَرْزِ[1]، لَا تَهْتَزُّ حَتَّى تَسْتَحْصِدَ[2]»[3].
ولئن كان قرار الهجرة الأولى إلى الحبشة صعبًا؛ فهذا القرار الجديد بالهجرة الثانية لأشدُّ صعوبة عدَّة مرَّات؛ وذلك لأن قريشًا الآن قد أخذت حذرها، وأغلقت أبواب مكة، وأوقفت حُرَّاسها على مداخلها ومخارجها؛ فقد عَلِمَتْ خطورة انطلاق المسلمين إلى الحبشة، وهي الآن تُحاول -بكل طاقتها- أن تمنعهم من الهجرة[4].
مَنِ الذي هاجر؟ وكم كان عدد المهاجرين؟
الذي اشتهر في كتب السيرة ومروياتها أن المهاجرين إلى الحبشة في هذه المرَّة كانوا أكثر من ثمانين من الرجال وثماني عشرة امرأة، بالإضافة إلى الأطفال، والذي اشتهر كذلك أنهم خرجوا جميعًا في هذا التوقيت؛ أي في العام السادس من البعثة، وكان على رأسهم جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، ومعه بعض الوجوه والأعلام كعثمان بن عفان، وأبي سلمة بن عبد الأسد، وعبد الله بن مسعود، وأبي موسى الأشعري، وأبي عبيدة بن الجراح، والزبير بن العوام.. وغيرهم رضي الله عنهم أجمعين.
ولكن بعد دراسة مستفيضة في مرويات السيرة ظهر لي أن قرار الهجرة الثانية لم يخرج فيه في هذه الفترة إلَّا عدد محدود جدًّا، أمَّا البقية -وعلى رأسهم جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه- فقد خرجت متأخِّرة في فترة مكة، في آخر العام العاشر أو أول العام الحادي عشر من البعثة!
والذي يدعوني إلى هذا التصوُّر هو وجود بعض أسماء المهاجرين في مكة المكرمة في أحداث الأعوام التالية، مع أنها من المفترض أن تكون قد هاجرت إلى الحبشة لو كانت الهجرة كاملة في العام السادس من البعثة؛ وذلك مثل: عبد الله بن مسعود، وأبي موسى الأشعري، ووجود عُمارة بن الوليد وهو من زعماء الشرك في مكة، في فترة لاحقة من المرحلة المكية، مع أنه غاب بالحبشة عندما ذهب إليها ليأتي بفوج المسلمين المهاجر، بالإضافة إلى إشارات في قصة هجرة الصديق رضي الله عنه إلى الحبشة تُؤَكِّد أن هذه الهجرة الكبيرة كانت قريبة من أواخر العهد المكي..
هذه تفصيلات كثيرة مهمَّة سأناقشها -بإذن الله- عند الحديث عن هذه الهجرة المهمَّة في التوقيت الذي أتوقَّعه، وهو في آخر العام العاشر من البعثة على الأقل[5].
وبهذا تكون الهجرة الثانية إلى الحبشة قد حدثت عن طريق أفواجٍ متتاليةٍ خرج الأوَّل منها -وهو صغير- في العام السادس من البعثة، وقد يكون خرج البعض بعد ذلك في العام السابع، ثُمَّ كانت المجموعة الأكبر بقيادة جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه بعد العام العاشر، ثم تتابع آخرون فُرَادى مثل الصديق رضي الله عنه، أو جماعات مثل أبي موسى الأشعري وأصحابه من اليمن، ليجتمع عدد كبير من المسلمين بذلك في الحبشة، وسَنُفَصِّل في أعداد هذا الجمع في مراحل لاحقة من الكتاب -بإذن الله- ويُؤَيِّد هذه الرحلات المتدرِّجَة ما قالته أم سلمة رضي الله عنها في إحدى روايات القصة حيث قالت: «فَخَرَجْنَا إِلَيْهَا (أي إلى الحبشة) أَرْسَالًا»[6]. فهي تُقَرِّر أنهم خرجوا مجموعات ولم يخرجوا دفعة واحدة، وهذا يتماشى أكثر مع المنطق؛ حيث يصعب خروج عدد ضخم من سكان مكة مرَّة واحدة دون أن يلحظهم أحد، فكانت الهجرة بهذه الطريقة المتدرِّجَة.
غير أنَّ البداية -كما ذكرتُ- كانت بعدد محدود، وكأنَّه اختبارٌ للمرحلة؛ فالمسلمون يتزايدون، ووجود عمر وحمزة رضي الله عنهما بين المسلمين يدعم الموقف، وحركة الدعوة مستمرَّة، ولا يُريد لها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تقف بغياب عددٍ ضخمٍ من المسلمين، ولا أعتقد أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرغب في ترك مكة قطُّ، إلَّا أن تُغْلَق فيها أبواب الدعوة تمامًا، وهي ما زالت مفتوحة حتى الآن على الرغم من الصعوبات الملموسة.
والذي يدعوني إلى افتراض أنَّ هناك بداية للهجرة في هذه المرحلة هو اجتماع معظم كتب السيرة على ذكر ذلك على الرغم من عدم وجود روايات صريحة صحيحة تُحَدِّد هذا التوقيت، وهذا الاجتماع يُعطي الانطباع أنَّ للقصة أصلًا؛ خاصَّة أنَّ ابن إسحاق ذكر هجرة الحبشة في أحداث العام الخامس من البعثة[7]، وهو متقدِّم قريب العهد بالقرن الأول الهجري، ومع ذلك فما تجمَّع لديَّ من أدلَّة يُؤَكِّد لي أنَّ الجانب الأكبر من الهجرة كان متأخِّرًا، فجاء هذا التناول ليجمع بين الأمرين، ويختفي الخلاف بذلك إن شاء الله.
ويتعلَّق بهذا الموضوع -أيضًا- قصَّة أخرى مهمَّة، وهي قصَّة قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة النجم في الكعبة على المؤمنين والكافرين، وأنا أعتقد أنَّ توقيتها كان في آخر العهد المكي كذلك بعد الإسراء والمعراج، مع أنَّ الكثير من كتاب السيرة وضعوها في العام الخامس أو السادس من البعثة، وسوف أُرجئ الحديث عنها إلى مكانها الذي أتوقَّعُه إن شاء الله.
وعودة إلى موقفنا الآن في مكة..
المسلمون يتزايدون، وقليلٌ منهم في الحبشة، والأسماء اللامعة تكثر، والإعلان مستمرٌّ، وبدأ يدخل في الدين أبناء الزعماء الكبار لمكة، فدخل بعض أبناء العاص بن وائل، وسهيل بن عمرو، وصفوان بن أمية، وعتبة بن ربيعة، وعقبة بن أبي معيط، وأبي سفيان بن حرب، وعمير بن وهب، والنضر بن الحارث، هذا غير الإخوة وأولاد العم والخال..
لقد بدا أنَّ الأمر سينفلت من يد زعماء الكفر..
ومن هنا اضطرَّ أهل الكفر إلى التفكير في عرض جديد عجيب لعلَّه يُخرج مكة من أزمتها، وهذا العرض هو الجلوس على طاولة المفاوضات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم!
[1] شجرة الأَرْزِ: قال النووي: الأَرْزَة فبفتح الهمزة وراء ساكنة ثم زاي، هذا هو المشهور في ضبطها، وهو المعروف في الروايات وكتب الغريب، وذكر الجوهري وصاحب نهاية الغريب أنها تقال -أيضًا- بفتح الراء، قال في النهاية: وقال بعضهم هي الآرزة بالمد وكسر الراء على وزن فاعلة. وأنكرها أبو عبيد، وقد قال أهل اللغة: الآرزة بالمد هي الثابتة. وهذا المعنى صحيح هنا؛ فإنكار أبي عبيد محمول على إنكار روايتها كذلك لا إنكار لصحة معناها، قال أهل اللغة والغريب: شجر معروف يقال له الأرزن، يشبه شجر الصنوبر بفتح الصاد، يكون بالشام وبلاد الأرمن، وقيل: هو الصنوبر. انظر: النووي: المنهاج 17/153.
[2] تستحصد: قال النووي: تستحصد بفتح أوله وكسر الصاد، كذا ضبطناه، وكذا نقله القاضي عن رواية الأكثرين، وعن بعضهم بضم أوله وفتح الصاد على ما لم يُسَمَّ فاعله، والأول أجود أي لا تتغير حتى تنقلع مرة واحدة؛ كالزرع الذي انتهى يبسه. انظر: النووي: المنهاج 17/151، 152.
[3] البخاري: كتاب المرضى، باب ما جاء في كفارة المرضى (5320)، ومسلم: كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب مثل المؤمن كالزرع ومثل الكافر كشجر الأرز (2809)، واللفظ له.
[4] لما قدم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مكة من الهجرة الأولى اشتدَّ عليهم قومهم، وسَطَتْ بهم عشائرهم، ولقوا منهم أذى شديدًا؛ فأذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخروج إلى أرض الحبشة مرة ثانية، فكانت خرجتهم الآخرة أعظمها مشقَّة، ولقوا من قريش تعنيفًا شديدًا، ونالوهم بالأذى. انظر: ابن سعد: الطبقات الكبرى 1/161، 162، وابن الجوزي: تلقيح فهوم أهل الأثر، ص298، والصالحي الشامي: سبل الهدى والرشاد 2/389.
[5] انظر: هجرة الحبشة الثانية.
[6] البيهقي: السنن الكبرى (18190)، وابن إسحاق: السير والمغازي، ص213، وابن عساكر: تاريخ دمشق 72/120، 121، وابن كثير: البداية والنهاية، 3/91، 92، وقال الصوياني: إسناده صحيح رواه ابن إسحاق. انظر السيرة النبوية 1/101.
[7] ذكر ابن إسحاق في سيرته خبر إسلام حمزة رضي الله عنه (ص171)، ثم ذكر هجرة الحبشة (ص174)، ثم ذكر خبر إسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه (ص181).
Post a Comment